حماية البيئة بعد اللامركزية
في 20 ديسمبر 2020، أقيل مصطفى العروي، وزير الشؤون المحلية والبيئة سابقاً، من منصبه بسبب شبهات فساد. كان العروي وزيراً في تاسع حكومة تونسية تشكلت بعد الثورة، ويترأسها هشام المشيشي، الذي أعفاه أيضاً من مهام منصبه. ليجري اعتقاله في اليوم ذاته. أقيل العروي من منصبه في الحكومة إثر فضيحة تنطوي على تسهيل نقل 282 حاوية تحتوي على 480 طن من النفايات الإيطالية إلى تونس عبر ميناء سوسة.[i] اتضح للرأي العام مدى ضخامة الفضيحة بعدما بث البرنامج الاستقصائي "الحقائق الأربع"، الذي يذاع على قناة الحوار التونسي، حلقة في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 أماطت اللثام عن حجم المشكلة. وقد ألقي القبض على 23 مشتبه بهم آخرين على خلفية الفضيحة وتم استجوابهم، من بينهم مدير الوكالة الوطنيّة للتصرّف في النفايات، الذي أطلق سراحه فيما بعد، وقنصل تونس في مدينة نابولي الإيطالية. ورغم تصدرها عناوين الأخبار في تشرين الثاني/نوفمبر فحسب، كانت النفايات المستوردة موجودة في ميناء سوسة منذ مطلع 2020. ووفقاً للتقارير، فقد وقعت الصفقة التي تم بموجبها نقل نفايات من منطقة في جنوب إيطاليا إلى الساحل التونسي بين شركة موردة تونسية تُدعى "سوريبلاست" وشركة إيطالية في مدينة نابولي تُدعى "سفيليبو ريسورسي أمبينتالي". خلافاً لِلرواية المتداولة إعلامياً -التي تزعم أن شركة "سوريبلاست" استوردت نفايات بلاستيكية في مرحلة ما بعد التصنيع لمعالجتها وإعادة تدويرها ثم تصديرها مرة أخرى- يشير العقد الرسمي أن الهدف كان الحصول على النفايات ثم إتلافها لاحقاً بشكل دائم في تونس، مقابل 48 يورو لكل طن -بحد أقصى 120 ألف طن في السنة- بقيمة إجمالية تبلغ 5 مليون يورو.
تطارد فضائح الفساد قطاع إدارة النفايات الصلبة التونسي. ففي أيار/مايو 2015، سلّط تقرير استقصائي أجراه موقع نواة[ii] التونسي الضوء على الفساد المستشري في إدارة أكبر مصبّ نفايات تديره الدولة، وهو مصبّ نفايات برج شاكير الكائن في بلدية سيدي حسين، إحدى الضواحي الجنوبية لمدينة تونس التي تضم عدداً من أحياء الشعبية.[iii] وصف التقرير الوضع في موجزٍ وافٍ جاء فيه: بالنظر إلى مردوديتها الكبيرة، مثّل قطاع تصريف النفايات مجالاً خصباً للفساد واتسمت أعماله طيلة سنوات بالغموض حتّى على المستوى المؤسساتيّ. يكشف التقرير عملية التلاعب بالمناقصة العامة التي مكنت شركة النظافة الفرنسية "بيزورنو للبيئة" التي يترأسها فرانسوا ليوتار من الفوز بِرخصة استغلال وإدارة مصبّ برج شاكير اعتماداً على العلاقة الشخصية التي تجمع ليوتار مع الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وقد وردت تلك المخالفات في تقرير استقصائي من 350 صفحة أعده عبد الفتاح عمر،[iv] تناول ممارسات الفساد والرشوة في مختلف قطاعات الدولة التي ارتكبها النظام الاستبدادي وأعوانه. بيد أن تأسيس الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات في 2005 [v] لتكن مؤسسة عمومية، لا تكتسي صبغة إدارية، مسؤولة عن التصرف في النفايات الصلبة، يبدو أنه سهل الفساد المؤسساتيّ في ذلك القطاع.
منذ بداية التسعينيات، ومع تسارع وتيرة السياسات النيوليبرالية، نجحت مجموعة من حملات زيادة الوعي البيئي لدى المواطنين في أخفاء الفساد المؤسساتي في قطاع إدارة النفايات الصلبة عن الرأي العام. واعتمدت شخصية لبيب الوهمية (شكل 1) شعاراً لتلك الحملات. وهي عبارة عن تميمة بيئية كانت تماثيلها التي ملأت الدورات البيئية في كافة أرجاء البلاد مرتبطة بحزب "التجمّع الدستوري الديمقراطي"، الحزب الأوحد الحاكم التابع للنظام الاستبدادي. بعد الثورة، دُمرت معظم هذه التماثيل بدافع الانتقام خلال الاحتجاجات. وتعد الباقية منها بمثابة تذكير على الأفكار المؤثرة التي رسخها النظام الاستبدادي في عقول المواطنين حول البيئة والتي تضمنت عنصرين أساسيين: الجانب الجمالي (تزيين الأماكن العامة بتماثيل) والاستقامة الأخلاقية، التي تقاس بمدى الالتزام بسلوك معين، من قبيل عدم إلقاء القمامة في الشوارع. بوضعها في ذلك الإطار، كانت حماية البيئة مسؤولية أخلاقية فردية بدلاً من كونها مسألة مجتمعية ذات أبعاد سياسية واقتصادية ترتبط بأنماط الاستهلاك والنفايات الحتمية التي تخلفها تلك الأنماط، وسبل التخلص من تلك النفايات الناتجة عنها. على الرغم من أوجه القصور تلك، فقد ساهم لبيب بالفعل في إذكاء الوعي حول ضرورة حماية البيئة. صحيح أن إزالة معظم هذه التماثيل هو بمثابة تخلي عن كل ما يرتبط بالنظام الاستبدادي، لكن لم تحل أيّ جهود من شأنها زيادة الوعي البيئي محل التميمة.
[i] كانت الحاويات تحتوي على نفايات مختلطة. تضمنت نفايات منزلية يمكن أن تشكل خطورة على الصحة العامة.
[ii] نواة هي مدونة جماعية مستقلة (لصحافة المواطن) تأسست في عام 2004 وتنشر مقالات صحفية متميزة تتعلق بالسياسات التونسية.
[iii] وفقاً لِمختار الهمامي، وزير الشؤون المحلية والبيئة، من المفترض أن يُغلق مصبّ نفايات برج شاكير نهائياً في حزيران/يونيو 2021.
[iv] عبد الفتاح عمر هو فقيه قانوني وأكاديمي تونسي مختص في القانون العام. في عام 2011، عُين رئيساً للجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد
[v] الأمر عدد 2317 لسنة 2005 المؤرخ في 22 آب/أغسطس 2005، الرائد الرسمي للجمهورية التونسية.
Product details
Table of contents
مقدمة
الإطار القانوني والمؤسسي لإدارة النفايات
الإدارة الرشيدة والتحسّن النسبيّ والأوضاع السُّمّيّة: ثلاثة أمثلة على الإدارة البلدية للنفايات الصلبة وعلى النشاطية البيئية
الحكم الرشيد في نابل
خلافات سياسية وحلول تقنية
تضارب بشأن المشاركة
حالة الأوضاع الجيدة نسبياً في المعمورة
ممارسات جيدة تنطوي على عواقب مليئة بالتحديات
التعاون مع منظمات المجتمع المدني
السُمية في عقارب
احتجاج غير مؤسسي وغير فوضوي
الرأسمالية الابتزازية والحوافز العكسية
مشكلة غير مجسدة
مسؤولية مؤسسية مشتَّتة
الحكم الرشيد في أوساط سُّمّيّة
الخاتمة
ملحق: استبيان المقابلة