هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة

وقت القراءة: %count دقائق

في إطار محاكاة هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة التي نظمتها Legal Education Advancement and Development – LEAD Tunisia بالتعاون مع مؤسسة Heinrich Böllبتونس يوم 21 أكتوبر 2016، شاركت سيرين شيخ روحه في دور صحفيّة لتغطية أعمال مجلس الهيئة، و حررت إثر ذلك المقال التالي.

سيرين شيخ روحه

لقد عرف العالم في السنوات الأخيرة تلوثا بيئيا خطيرا أدى لإنقراض العديد من الكائنات الحية وتهديد حياة الإنسان والكوكب الذي يعيش فيه، ويعود هذا التلوث بالأساس للإستغلال الفاحش للموارد الطبيعية من أجل تحقيق الأرباح الإقتصادية. وللحد من هذه المخاطر وحماية حقوق الأجيال القادمة بدأ التحدث عن مصطلح “التنمية المستدامة” من قبل الإقتصاديين، وتعني “تطوير الأرض والمدن والمجتمعات وكذلك الأعمال التجارية شرط أن تلبي إحتياجات الحاضر بدون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها”[1]. وتقوم التنمية المستدامة أساسا على ضرورة التوازن ما بين حماية البيئة والتنمية الإقتصادية والعدل الإجتماعي

 ومن المفيد معرفة تاريخ ظهور مصطلح الهيأة المستدامة” حتى يفهم الغاية منها وأهدافها الحقيقة: “فما بين سنة 1972 و 2002 استكملت الأمم المتحدة عقد ثلاثة مؤتمرات دولية ذات أهمية خاصة، الأول عقد في ستوكهولم ( السويد ) عام 1972 تحت اسم “مؤتمر الأمم المتحدة حول بيئة الإنسان ” و الثاني عقد في ريو دي جانيرو عام 1992 تحت اسم “مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة و التنمية ” ، و الثالث انعقد في جوهانسبورغ في سبتمبر 2002 تحت اسم ” مؤتمر الأمم المتحدة حول التنمية المستدامة “، وفي سنة 1972 أصدرت الأمم المتحدة تقريرا حول حدود النمو الذي شرح فكرة محدودية الموارد الطبيعية، و أنه إذا استمر تزايد معدلات الإستهلاك فإن الموارد الطبيعية لن تفي باحتياجات المستقبل ، و أن استنزاف الموارد البيئية المتجددة ( المزارع ، المراعي ،الغابات) و الموارد غير المتجددة ( حقول النفط ، الغاز) يهدد المستقبل

و في عام 1973 هزت أزمة البترول العالم و نبهت إلى أن الموارد محدودة الحجم، وفي عام 1980 صدرت وثيقة الإستراتيجية العالمية للصون ، نبهت هذه الوثيقة الأذهان إلى أهمية تحقيق التوازن بين ما يحصده الإنسان من موارد البيئة و قدرة النظم البيئية على العطاء، وفي عام 1987 أصدرت اللجنة العالمية للتنمية و البيئة تقرير” مستقبلنا المشترك” كانت رسالته الدعوة إلى أن تراعي تنمية الموارد البيئية تلبية الحاجات المشروعة للناس في حاضرهم دون الإخلال بقدرة النظم البيئية على العطاء الموصول لتلبية حاجات الأجيال المستقبلية ، و لما انعقد مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة و التنمية عام 1992، برزت فكرة التنمية المستدامة أو المتواصلة كواحدة من قواعد العمل الوطني و العالمي، ووضع المؤتمر” أجندة 21 ” تضمنت 40 فصلا تناولت ما ينبغي الإسترشاد في مجالات التنمية الإقتصادية ، التنمية الإجتماعية ، و في مشاركة قطاعات المجتمع في مساعي التنمية”[2].

وتجدر الإشارة إلى أن مصطلح التنمية المستدامة في حد ذاته خلق إختلافا ما بين رجال الإقتصاد ورجال البيئة الذين يرون أن “العالم ليس ما ورثناه من أبائنا بل ما إستعرناه من أحفادنا”. وهؤلاء الآخرين، إيمانا منهم بأولية حماية البيئة وعلويتها ومس التوازن المراد تحقيقه من التنمية المستدامة  للبيئة وحقوق الأجيال القادمة، يرفضون أصلا تبني هذا المصطلح. في حين أن رجال الإقتصاد يرون أن التنمية المستدامة هي الحل الأفضل لحماية حقوق الأشخاص الحاليين من خلال توفير عدالة إجتماعية وتنمية إقتصادية وحماية البيئة وحقوق الأجيال القادمة في نفس الوقت

وبالرجوع إلى دستور الجمهورية التونسية، نجد أن الآباء المؤسسين له قد تبنوا فكرة التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة وجعلوها هيئة دستورية تحت الباب السادس “الهيئات الدستورية المستقلة” نظمها الفصل 129 من القسم الرابع “تستشار هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة وجوبا في مشاريع القوانين المتعلقة بالمسائل الإقتصادية والإجتماعية والبيئية وفي مخططات التنمية. وللهيئة أن تبدي رأيها في المسائل المتصلة بمجال إختصاصها

“تتكون الهيئة من أعضاء من ذوي الكفاءة والنزاهة يباشرون مهامهم لفترة واحدة مدتها ست سنوات”

وفي هذا الإطار لا بد من التمعن في “حرف الواو” الذي ورد في العنوان الذي حدد إسم الهيئة. فحرف الواو قد يفهم على أنه واو عطف ما بين جزء (هيئة التنمية المستدامة) وجزء ثان (حقوق الأجيال القادمة)، والسير في هذا التفسير يوسع صلاحيات نظر الهيئة في كل القوانين التي تمس التنمية المستدامة والقوانين التي تمس حقوق الأجيال القادمة حتى وإن لم يكن لها جانب اقتصادي أو ربحي

ولكن الرجوع لمداولات المجلس الوطني التأسيسي توضح أن المشرع التونسي استعمل واو العطف للربط بينهما أي أن الهيئة لا تنظر في قوانين الأجيال القادمة إلا إذا كانت على علاقة وطيدة مع التنمية المستدامة أو تتقاطع معها.  بل وأكثر من هذا في أول المداولات لم يتحدث أبدا عن “هيئة تنمية مستدامة وحقوق أجيال قادمة” بل إنطلق النقاش حول وضع مجلس إقتصادي ليتطور فيما بعد ويتفق على وضع هيئة للتنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة. وهذا النقاش يوضح أن الجانب الإقتصادي كان الغالب على روح الهيئة وكأنما هي هيئة للتنمية المستدامة تسعى لتحقيق التوازن ما بين الجانب الإقتصادي والإجتماعي والبيئي لليوم والغد. وبعبارة أوضح كـأنها هيئة للنظر في مشاريع قوانين التنمية المستدامة حتى ولو لم يكن لبعض هذه القوانين علاقة مع حقوق الأجيال القادمة، في حين أن العكس غير صحيح، فالهيئة لا تنظر في مشاريع  قوانين حقوق الأجيال القادمة التي لا تمس أو لا تربطها أية علاقة بالتنمية المستدامة. وقد علل المشرع التونسي هذا الإختيار لتفادي مضار توسيع أعمال الهيئة وأشار إلى أن هناك هيئة دستورية لحقوق الإنسان كما نص عليها الفصل 128 تعنى بهاته الحقوق منها حقوق الطفل والأجيال القادمة. وقد يحصل إلتباس ويفهم من هذا أنها لا تنظر في قوانين حماية البيئة لو لم يكن هذا التلوث حاصل جراء برنامج إقتصادي إلا أن الفصل 129 من الدستور لا يتضمن هذا الشرط. وبالتالي على الهيأة أن لا ترجح كفة الإقتصاد على حساب كفتي البيئة والعدالة الإجتماعية، فإطلاق إسم الهيئة المستدامة عليها في حد ذاته يجعلها ملزمة بتحقيق التوازن بين هذه النقاط الثلاث

ولم يتم الحسم لليوم في مجال صلاحيات الهيئة وكيفية عملها وسيرها في إنتظار المصادقة على قانون يوضح لنا هاته النقاط أكثر ويحسم في عديد النقاشات والنقاط

وقد قدمت الحكومة التونسية في هذا الشأن مشروع قانون أساسي يغيب فيه تماما وضع تعريف للتنمية المستدامة وتعريف لمعني الأجيال القادمة وحقوقها، وهذا ما عاب عليه الكثيرون لأنه قد يخلق إشكالا على مستوى التوسيع أو التضييق في صلاحيات الهيأة

 نص مشروع القانون في فصله الرابع على أنه “تهدف الهيأة إلى ضمان مقومات التنمية المستدامة على أساس التوفيق بين المتطلبات الإقتصادية والإجتماعية وحماية البيئة والموارد الطبيعية بما يحفظ حق الأجيال الحاضرة والقادمة في تلبية حاجياتها. تعمل الهيئة على تكريس الديمقراطية التشاركية وذلك بتوفير إطار للتشاور والحوار بين مختلف الأطراف الفاعلة من منظمات وطنية ومهنية ومكونات المجتمع المدني وخبراء وللمساهمة في ضبط السياسات العمومية والمخططات التنموية”

وفي قراءة أولى لنص الفصل يمكن القول أنه حافظ على روح الدستور ومبادئه، كما إحترم روح التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة

كما أثنى المحللون والباحثون على “وجوب إستشارة الهيئة من قبل مجلس نواب الشعب أو رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة في مشاريع القوانين ذات العلاقة بالمسائل الإقتصادية والإجتماعية والبيئية، مشاريع مخططات التنمية الوطنية والجهوية والوثيقة التوجيهية للمخطط وتقارير متابعة وتقييم المخطط التنموي وفي الميزان الإقتصادي”[3]. ورأى البعض أن الواو في مسائل مشاريع القوانين هي واو تعديد وليس حصر وهو ما يفتح باب تدخل أوسع للهيئة. ودور الهيئة لا يقف عند الإستشارة فقط بل أعطاها مشروع القانون في الفصل العاشر حق إبداء الرأي من تلقاء نفسها في كل مشروع قانون أو أمر حكومي أو وثيقة توجيهية أو إستراتيجية تخص السياسات العمومية أو البرامج أو المشاريع الكبرى المتصلة بمجال إختصاصها والتي لم تستشر فيه وجوبا. كما يمكنها تلقي العرائض الشعبية في المواضيع المذكورة أعلاه شرط أن تتضمن إمضاءات عشرة ألف مواطن تونسي مقيم

في حين أن الفصل الخامس من مشروع القانون طرح بعض النقاشات حول “إبداء الهيئة لرأيها في القوانين والسياسات العمومية ذات العلاقة بالمسائل الإقتصادية والإجتماعية والبيئية وفي مخططات التنمية وذلك بتقييم مدى إنسجامها مع مقاربات وأهداف التنمية المستدامة.” فعاب بعض أساتذة القانون على عدم إلزامية رأي الهيأة وعلى غياب عبارة “حقوق الأجيال القادمة في هذا القانون، غير أن مقترحي مشروع هذا القانون عللوا هذا الإختيار بأن الهيأة ليست منتخبة مباشرة من الشعب لذا لا يمكن إعطاؤها نفس شرعية نواب الشعب، بالإضافة إلى أن جعل رأي الهيأة إستشاريا لا غير وضع تفاديا لأن تصبح الهيأة طرفا في النزاعات. ولكن الفصل 9 من مشروع القانون أوجب تعليل الجهة المستشيرة للهيئة لقرارها في صورة عدم الأخذ برأي الهيئة، ولكن لم يتم التنصيص على نشر هذا التعليل رغم أن المسودة الأولى كانت تنص على ضرورة نشره

كما تم نقد تركيبة الهيأة التي ذكرت في الفصل 14 الذي نص على أعضاء مجلس الهيئة  الذين يتم ترشيحهم من الأطراف الأتي ذكرها: المنظة النقابية للشغالين الأكثر تمثيلية، منظمات الأعراف الأكثر تمثيلية في قطاعات الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، المنظمة الأكثر تمثيلية في قطاع الفلاحة والصيد البحري، شبكات الجمعيات الناشطة في مجال حماية البيئة والتنمية المستدامة، شبكات الجمعيات  الناشطة في المجالات الإقتصادية والإجتماعية، والهيئات المهنية الحرة للمهندسين والمهندسين المعماريين والأطباء والمحامين. هاته النقطة الأخيرة أثارت العديد من التساؤلات حول مدى فاعلية تمثيلية الأطباء والمحامين في تركيبة الهيئة معتبرين إياها مجرد محاباة وترضية للمهندسين والأطباء، وأن تعويضهم بمختصين في البيئة وعلم الإجتماع يكون أجدى، كما أضاف أصحاب هذا الرأي أن المحامين أوالمهندسين يمكن للهيئة أن تستمع إليهم عند الحاجة

وفي نفس السياق أثارت مسألة تركيز منتدى للهيئة “يتركب من مجلس الهيئة ومن أعضاء يتم تعيينهم من المنظمات والأطراف التي يمثلونها أو إختيارهم من مجلس الهيئة بالنسبة للجمعيات والخبراء المختصين”[4] العديد من التحفظات خاصة وأن هذا المنتدى متكون من 34 عضوا وهو العدد الذي أعتبر كبيرا جدا، بل وقد يؤدي للعديد من الحسابات والتجاذبات السياسية والمحاباة. هذا ما جعل العديد من الأصوات تنادي بضرورة التخلي عن فكرة منتدى للهيئة

وتبقى كل الأجوبة والجدالات المطروحة مجرد تخمينات ونظريات سيدحض بعضها ويأكد بعضها الآخر بعد المصادقة على قانون ينظم الهيئة وخلال سير عملها ومواقفها التي يمكنها إما أن تلعب دورا مهما وتاريخيا في تحقيق التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة أو أن تبقى مجرد هيئة تجتمع في المناسبات واليوم العالمي للبيئة. وفي نفس الإطار لا بد من لمكونات المجتمع المدني والمواطنين أن يساهموا في إنجاح دور الهيئة وتحديد مسارها

[1] ويكيبيديا

[2] قسم العلوم القانونية بجامعة شلفع

[3]  الفصل 7 من مشروع القانون الأساسي المتعلق بالهيئة المستدامة وحقوق الأجيال القادمة

[4] الفصل 25 من مشروع القانون الأساسي المتعلق بهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة