المصادرة من شعار ثوري إلى ملف فساد في تونس

اختارت المفكرة القانونية-تونس أن تخصّص تحقيق عددها الأول  الصادر في أفريل 2015 لملف المصادرات الحاصلة تبعا للثورة. حاولت المفكرة القانونية في تحقيقها أن تنفض الغبار عن ملف لفّه الصمت مدة أربع سنوات، فطرحت السؤال حول كيفية تصرف الدولة في الاملاك المصادرة. كما بيّنت المفكرة القانونية في تحقيقها أنه يقتضي طرح السؤال حول مدى مشروعية مرسوم المصادرة وإمكانية تحصينه. وقد أحدث نشر هذا التقرير صدمة ايجابية في الوسط الاعلامي. وذهب موقع تونسي تلغراف الى حد وصفه على أنه أول عمل جدي في هذا الموضوع[1]. وأكدت الاحداث سريعا ما ذهبت اليه المفكرة القانونية. فتوالت اعترافات المسؤولين الحكوميين بوجود فساد وسوء ادارة في ملف المصادرة، لينتهي الأمر الى صدور حكم قضائي هدد بالغاء المصادرة. وتبعا لذلك، تأكّد أن المصادرة اجراء ثوري في خطر وأن هذا الخطر يتجاوز ما هو قانوني ليتصل بالسياسة وبرامجها المستقبلية بعدما بدأت المصالحة تطرح كبديل أو كمكمّل للمصادرة.
 وقد دفع تطوّر الأحداث المفكرة القانونية الى مراجعة النسخ الأصلية من التحقيق الذي أعدته، مضيفة اليه سؤالاً جديداً مفاده: "المصادرة، الى أين؟". وهذا السؤال لا يحجب بحال سؤال البداية: "من يتصرف في الاموال المصادرة؟"    

من يتصرف بالأموال المصادرة؟  

انطلقنا في رحلة التقصي حول التصرف في الأموال المصادرة من مرسوم عدد 13 لسنة 2011 المؤرخ في 14/03/2011 المتعلق بالمصادرة[2]، هذا المرسوم الذي أحالنا للجنة المصادرة بوزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية. التقينا برئيس اللجنة القاضي السيد رياض بوجاه الذي أفادنا أن لجنته تولّت "مصادرة 530 عقاراً و650 شركة و24739 قطعة منقولة و73 مليار دولار ومليار ونصف المليار يورو و173 سيارة فخمة وغيرها، وشملت عملية التجريد من الملكية كل المكتسبات المادية المتحصل عليها منذ 7/ 11/1987 باستثناء ما تم اكتسابه من خلال "الإرث" (وهو استثناء أضيف لاحقاً). وبسؤالنا له حول كيفية التصرف في الأموال المصادرة المذكورة، أكد لنا أن التصرف في الأموال يخرج عن اختصاص لجنته ويدخل في اختصاصات "اللجنة الوطنية للتصرف في الأموال والأملاك المتعلقة بالمصادرة أو الاسترجاع لفائدة الدولة". تلك اللجنة التي أُرسيت بموجب المرسوم 68 لسنة 2011المؤرخ في 14/07/2011

سألنا الأستاذ بوجاه عن رأيه في تقسيم العمل بين لجنته ولجنة التصرف فأجاب "أنه يعتبر خيار وضع لجنتين اختياراً مجانباً للصواب. والدليل على ذلك وفق تقديره الخلاف بين الهيكلين بخصوص من يتكفل بنقل الملكية إلى الدولة. وكشف محاورنا عن تداخل الهياكل وتنازع الاختصاصات في ما بينها، وذكر أن "هذا التداخل أدى الى نزاع بين اللجنتين فصلت فيه المحكمة الإدارية برأي استشاري أسند مسؤولية نقل العقارات لملكية الدولة للجنة التصرف". وقد بيّن محاورنا "أن مسألة من يتحمل مصاريف وإجراءات نقل الملكية في العقارات المسجلة وحدها أدت لتعطل نقل ملكية 120 عقاراً للدولة".

وقد تبيّن لنا أن عمل لجنة المصادرة عمل إداري بالأساس يتمثل في إعداد قوائم من ستصادر أموالهم وجرد تلك الأموال باعتماد وثائقها. وهذا ما يفسر ضخامة تقدير قيمة الأموال المصادرة والذي لا يظهر أثره في الموازنة العامة. وهو الأمر الذي يدفعنا الى الاعتقاد بأن قوائم لجنة المصادرة لا يمكن الثقة في تقديرها لقيمة الأصول التي صودرت.

 حاولنا أن نواصل بحثنا حول التصرف في الأموال المصادرة  الى حيث أحالنا "رئيس لجنة المصادرة". فسعينا الى لقاء من يمثل اللجنة الوطنية للتصرف في الأملاك المصادرة. وبعد خمسة اتصالات في أوقات مختلفة لطلب موعد، كان يأتينا دوماً الرد نفسه: "المسؤول في اجتماع، إن أردتم التحدث إليه فعليكم إحضار موافقة كتابية من وزارة الإشراف (أي وزارة المالية)". تحولنا إذ ذاك الى وزارة المالية التي رفضت تحديد موعد لنا مع رئيس اللجنة الوطنية للتصرف في الأملاك المصادرة بعدما كانت قد التقت معنا ووعدتنا بذلك .

لم ننجح إذاً في الوصول للجنة التصرف في الأموال المصادرة. وبعد التأكد من وجود قرار يهدف للتعتيم على عمل اللجنة، قررنا أن نحاول تجاوز هذا المنع بتحويل وجهة بحثنا في اتجاه النظر في كيفية التصرف بالأموال المصادرة، أملاً بالحصول على جواب مقنع بشأن سبب رفض لجنة التصرف الحديث عنها.

بحثنا عن المتصرفين في الأموال المصادرة، فتبين لنا أن لجنة التصرف "لا تتصرف"، وقد يكون هذا سبب صمتها. واكتشفنا أن من يتصرف في أغلب الأملاك المصادرة هم المتصرفون القضائيون، بحيث أنهم يديرون ما يقارب ثمانين بالمئة تقريبا من مجمل الشركات المصادرة[2][3]علاوة على تصرفهم في كامل الأصول والعقارات المصادرة. وقد أكّد لنا مصدر قضائي على صلة بملفات التصرف وطلب عدم الكشف عن هويته "أن المكلف العام بنزاعات الدولة استصدر سنة 2011 قرارات قضائية تقضي بتسمية متصرّفين قضائيين لإدارة الأملاك المصادرة لحين تمكن الدولة من التصرف فيها". وكشف لنا المصدر ذاته "أن القضاء تعهّد مؤقّتا بإدارة الأملاك المصادرة ليضمن حقوق جميع الأطراف بما فيها الدولة، وأنه بعد استحداث لجنة التصرف، تولى القضاة المشرفون على ملفات التصفية مراسلة لجنة التصرف ليطلبوا منها أن تباشر إجراءات تسلم التصرف في الأموال المصادرة ولتباشر إدارتها. إلا أن لجنة التصرف ووزارة المالية رفضتا الرد على المراسلات. وقد أدت  سلبية لجنة التصرف الى استمرار تصرف الخبراء العدليين في الأملاك المصادرة".

سألنا عن تصرف المتصرفين في الأملاك المصادرة وعن صحة الأخبار التي تتحدث عن "سوء إدارة أدت الى إفلاس عدد من المؤسسات وأضرت بالأملاك المنقولة. فأكد لنا مصدرنا القضائي أن ضخامة الأموال المصادرة وتشعب إجراءات حصرها أديا الى صعوبات في إدارتها، ولاحظ أن التصرف القضائي كان يفترض أن يكون إجراءً مؤقتاً. لمسنا حرَجاً في الإجابة عن السؤال، فقررنا التوجه مباشرة لمن يتصرفون فعلياً في الأملاك المصادرة وهم المتصرفون القضائيون.

بعض الشركات المصادرة أشرفت على الإفلاس

طرحنا سؤالنا حول الوضع المالي للأملاك المصادرة على المتصرف القضائي نبيل عبد اللطيف الذي عهدت له المحكمة بإدارة إحدى الشركات المصادرة. فأجابنا "أن عدداً من المؤسسات المصادرة الموضوعة تحت التصرف القضائي يعاني صعوبات مالية ويشرف على الإفلاس". وبرر ذلك بقوله "بأن تراجع مداخيل بعض المؤسسات المصادرة ومشارفة بعضها الآخر على الإفلاس يعود إلى أن المالكين القدامى كانت لهم صلاحيات غير مضبوطة ويدهم تطال كل التسهيلات المشروعة منها وغير المشروعة لجعل المداخيل ترتفع ونسبة الأرباح تكون عالية. وهي صلاحيات وتسهيلات لا يتمتع بها المتصرف القضائي. وبالتالي من الطبيعي أن تتراجع المداخيل وهو ما يفسر إلى حد ما الاضطرابات المالية لبعض هذه الشركات".

كما اعتبر محاورنا "أن تدهور وضع بعض المؤسسات يعود إلى أن القانون الناظم للعملية كان ارتجالياً وغير دقيق، ذلك أنه كان يجب أن يضبط فترة المصادرة بتوقيت معين لا تتجاوز مدة السنة حتى لا يفتح باب التصرف غير المدروس في تلك الأملاك، ثم اتخاذ قرار في هذه الشركات إما بالتفويت فيها بحضور ممثلين عن لجنة المصادرة ولجنة التصرف والمتصرف القضائي أو المؤتمن العدلي والدائنين، أو إدراجها ضمن الشركات التي تمر بصعوبات مالية أو بيعها أو وضعها في البورصة حتى تكون قادرة على توفير مصاريفها والحفاظ على جزء من أرباحها بدل التقهقر".

أكد السيد نبيل عبد اللطيف أنه "خلال السنوات الأربع التي تلت الثورة التونسية، تم تكليف مديرين عامين بتسيير شؤون المؤسسات التي تعود إلى ملكية الدولة بنسبة تفوق 80%، ومنحهم صلاحيات واسعة للتصرف. وقد فتح هذا التكليف الباب لبعض التجاوزات أو التصرف غير الرشيد. وكشف أن هؤلاء المدراء لم يتم توظيفهم وفق قانون الوظيفة العمومية الذي يحدد صلاحيات المسؤولين على المؤسسات العمومية ويضبط طريقة عملهم ".
الأمر نفسه أكده المستشار المقرر العام بنزاعات الدولة السيد عماد عبدلي الذي أكد لنا أنّ "بعض الممتلكات تعرضت إلى التلف النسبي مثل القوارب واليخوت والسيارات والطائرات بسبب الإبقاء عليها منذ أربع سنوات معرضة إلى تأثير العوامل الطبيعة وانعدام الصيانة". وأضاف أن "تلك الممتلكات يشرف عليها متصرفون معينون من المحكمة لا يحق لهم قانوناً التفويت أو التصفية أو أي شكل من أشكال التصرف". وأضاف "أن عدم رفع الائتمان القضائي سوء تصرف" ليؤكد أن الشركات المصادرة أصبحت تمثل عبئاً مادياً ثقيلاً على الدولة". ويذكر في هذا الاطار أن الدولة التونسية اضطرت لضخ أموال تناهز 18 ملون دينارا تونسيا في بعض الشركات المصادرة لتضمن تواصل نشاطها وقد تم ذلك دون مصادقة لجنة التصرف ودون تصور واضح لأثره على ادارة تلك الشركات.[4]

كشفت لقاءاتنا أن المصادرة تحولت الى عبء على الدولة وأن إدارة الدولة للأملاك المصادرة تحوّلت الى ملف فساد. وأسباب الفساد متعددة: فمنها ما هو بيروقراطيّ إداريّ بحيث إن اختصاص إدارة ملف المصادرة وُزّع بين لجان متعددة لا تنسّق في ما بينها في عملها، ومنها ما هو تعويل على لجان تتكوّن من عدد محدود من الأشخاص أغلبهم غير متفرغين، ومنها ما هو غياب الرقابة على أعمال من يتصرفون فعلاً في الأملاك المصادرة من الجهة التي صادرت، ومنها ما هو تصرف انتهازي في الأملاك المصادرة، وخصوصاً في الشركات الكبرى، ليفوّت فيها ويتهرب من إدارة الملفات التي تستحق الجهد والعمل.

فقد اختارت وزارة المالية بعض الشركات الكبرى التي تعدّ أيقونات الاقتصاد التونسي وتتمثل أساساً في مؤسسات بنكية أو أسهم في مؤسسات بنكية وشركات نقل واتصالات لتفردها بأسلوب تصرّف خاص من خلال مجمع الكرامة القابضة[5] ولتتولى لاحقاً التفويت فيها للخواص. ولم يتّضح بعد كيف أدارت الكرامة هولدنينغ 58 مؤسسة مصادرة كبرى. كما لم يتحول النقاش حول إدارتها لتلك الأموال خصوصا في فرعها المتعلق بالتفويت فيها الى سؤال حول تحقيق المصادرة هدفها في إعادة التوزيع العادل للثروة، خصوصا أن عمليات التفويت قد أدت الى إفادة كبار رجال الأعمال من الشركات المصادرة وسط غياب للمنافسة في عروض الشراء في كثير من الحالات.

فشلت الدولة كما يبدو في إدارة  الأملاك المصادرة واهتمت بالشركات الكبرى بحثاً عن الربح السريع الذي يتحقق ببيعها وأهملت الجانب الآخر من الأملاك المصادرة التي اتسمت إدارتها بفساد كبير يجعل منها أهم ملف فساد بعد الثورة.

فساد "ادارة الدولة لملف المصادرة" أدى الى تبديد مبالغ مالية طائلة من اموال المجموعة الوطنية يصعب تقديرها. وقد التفّت الحكومات المتعاقبة عن معالجة سوء الادارة  قبل أن يستفحل لتكتفي بعد أن استحال التغطية على نتائجه الكارثية الى الاعتراف به والتأكيد على انها ستحاسب المسؤولين عنه دون أن تتخذ أي اجراء فعلي يؤكد سعيها لاصلاح ادارتها اولا ولمحاسبة تقصيرها ثانيا. فكان أن اعترف رئيس الحكومة التونسية خلال جلسة الاستماع له بمجلس نواب الشعب بتاريخ 05-06-2015 "التصرّف في الأملاك المصادرة، شابه غيابَ الشفافية، وضُعفَ مصداقية البيانات المتوفّرة، وضُعف التنسيق بين مختلف المتدخلين، وعدم تفعيل العديد من قرارات لجنة التصرّف". وليؤكد لاحقا وزير أملاك الدولة السيد حاتم العشي في تصريح إذاعي "أن أغلب المتصرفين القضائيين قد قاموا بعديد التجاوزات مع وجود شبهات فساد إن ارتقت إلى مستوى الجرائم سنقدّمهم للقضاء[6].
اعترفت الحكومة بما كشفت عنه المفكرة القانونية من سوء ادارتها للاموال المصادرة. كما أدى فحص القضاء لشرعية مرسوم المصادرة للكشف عن أزمة المصادرة من جهة المبادئ بعد أن تبين أن مشروعيتها تقبل النقاش. وزاد في ازمة المصادرة الاجراء الثوري ان جانبا من الطيف السياسي كان يتصيد الازمة   ليعلن المصالحة كبديل او كاجراء من شأنه اصلاح ما افتعلته المصادرة.
 
المصادرة في خطر والمصالحة البديل المقترح: المصادرة الى أين؟  

قدرت المفكرة القانونية عند إعدادها لتقريرها هذا في صيغته الأولى كما نشر بنشريتها  الأولى من تونس بتاريخ 01 افريل 2015  أن "إهمال الدستور تحصين المصادرة من المنازعات القضائية، مصدر خطر حقيقي على الأموال المصادرة".

وأكد لاحقا الحكم الذي صدر عن الدائرة الابتدائية الحادية عشر بالمحكمة الإدارية بتاريخ 08 -06-2015 ما حذرت منه المفكرة القانونية. فقد ذهبت المحكمة الى أن عدم عرض المرسوم المتعلّق بمصادرة أملاك بن علي وأفراد عائلته على المجلس التشريعي يعيب اجراءاته وانتهت الى اعتبار مرسوم المصادرة غير شرعي. وتبعا لذلك، ألغت المحكمة قرار المصادرة الذي صدر على أساسه وتعلق بالمدعو بلحسن الطرابلسي أحد اصهار زين العابدين بن علي.

كشف حكم المحكمة الإدارية ضعف البناء الحقوقي للإجراء الثوري. وتبعا لذلك، يصبح موقف المحكمة الإدارية في مئات القضايا التي رفعها من صودرت أموالهم مسألة غير محسومة قد تنتهي إلى إرجاع الأموال التي صودرت لكل من شملتهم المصادرة بل ربما أيضا الى إلزام الدولة التونسية بتعويض من عدتهم الثورة التونسية "عصابة السراق"[7] عما فاتهم من سنوات الحرمان من الاموال التي سرقوا.

 وذهب في هذا السياق الاستاذ المحامي يوسف الرزقي في جوابه على سؤال المفكرة القانونية حول تصوره بالنسبة لمآل مرسوم المصادرة الى حدّ الجزم بأن "حظوظ من تقدموا بقضايا رفع المصادرة وافرة في استعادة تلك الأموال" ذلك ان "مرسوم المصادرة ورد تحت تأثير ضغط الشارع ولم يحترم اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد وتحديداً أهم شرط من شروط هذه الاتفاقية وهو أن يكون المال حصيلة الفساد وليس حصيلة عمل الإنسان الطبيعي العادي"[8].

لم يؤدِّ حكم المحكمة الادارية لاستعادة " بلحسن الطرابلسي " للاموال التي صودرت عنه على أساس أنه ابتدائي الدرجة. وكان كافيا ان تستأنفه الحكومة التونسية ليحل وتنتقل الدعوى موضوعه للدائرة الاستئنافية التي ستعيد النظر فيه. لكن هذا الحكم منح فرصة لصهر الرئيس السابق لكي ينشر بالصحف التونسية  اعلاما ينبه الجميع من خطر شراء عقارات كانت على ملكه وتمت مصادرتها لان قرارات المصادرة ستلغى عاجلا ام آجلا. عمق "التهديد القانوني" من أزمة التصرف في الاملاك المصادرة بحيث حوّل  التعامل في العقارات والاصول المصادرة الى مقامرة مجهولة المآل. ومن نتائج ذلك، التقليل من عدد الراغبين بشرائها وتاليا من عائدات بيعها بما يؤكد مرة اخرى سوء ادارة ملف المصادرة.

ويكشف تتبع الخطاب الذي تولد بعد الاعلان عن هذا الحكم عمق الأزمة التي بات يعاني منها الاختيار الثوري. فاذ بدا الخطاب العام في ظاهره مستنكرا لقرار المحكمة لحد الوصول لاتهامها بالخيانة، فإن جانبا من هذا الخطاب تمثل في اخراج مواقف انتهازية مرادها العبور سريعا من المصادرة الخائبة الى المصالحة.

وتجدر الاشارة الى أن أحد أبرز المواقف التي ادانت الحكم المذكور، هو ما صرح به الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الاسلامي خلال اجتماع له باطارات حزبه بجهة قابس يوم 14 -06-2015. فقد جاء فيه أن "عدم نصب المشانق في الثورة والتعامل مع الخصوم بمنطق الاقصاء والتشفي لا يعني الموافقة على حكم الغاء مرسوم المصادرة "[9]. وقد تناغم هذا الموقف مع البيان الاعلامي لحزب العمال الذي اعتبر "أن الحكم سياسي بغطاء قانوني وهو بقطع النظر عن الجوانب الشكلية والاجراءات القانونية حكما لصالح الثورة المضادة ولصالح رموز الفساد.. وهو دليل آخر على  المسار الالتفافي على مطالب الثورة وشعاراتها في محاربة الفساد[10]. وفي تطور نوعي، اجتمعت في 12-06-2015 هيئة التنسيق والتشاور للأحزاب المكونة للحكومة.وقد خلص الاجتماع باصدار بيان أكد على الحرص على استعمال وسائل الطعن القضائي ضد حكم المحكمة الادارية. كما دعا البيان "الحكومة ومجلس نواب الشعب لاتخاذ ما ينبغي من إجراءات إضافية لحماية حقوق التونسيين ومكاسب ثورتهم".

التقى موقف الاحزاب الحاكمة ومنها حركة النهضة مع تصريحات وزير املاك الدولة والشؤون العقارية السيد حاتم العشي الذي صرح بتاريخ 10-06-2015 لوسائل الاعلام المحلية  هذه التصريحات التي قال فيها ان " قرار المحكمة اسقط كافة ما جاءت به الثورة  ومسار المصالحة الوطنية" ليعود بعد يوم واحد ليصرح ان وزارته "قرّرت تشكيل لجنة كبرى بمشاركة مختلف الأطراف المعنية للعمل على تنقيح مرسوم المصادرة بما يتماشى مع المصالحة الوطنية ثمّ عرضه على مجلس الوزراء ومجلس نوّاب الشعب".

كشف المسؤول الحكومي عما بقي غامضا في دعوة الاحزاب السياسية لاتخاذ اجراءات لحماية مرسوم المصادرة وبيّن ان هذه الاجراءات ستربط بين المصادرة والمصالحة الوطنية التي سبق ودعا لها رئيس الجمهورية واعتبرها بديلا عن مسار العدالة الانتقالية.

تحول سريعا الدفاع عن المصادرة الى اعتراف حكومي بان "مرسوم المصادرة به العديد من الهنات ويجب ان يراجع  في علاقة مع المصالحة الوطنية ليتم جلب الاستثمار"[11] .

وعليه، تحول الحديث عن كارثية حكم الغاء المصادرة الى مناسبة ملائمة لدوائر الحكم لتطرح بوضوح  فكرة المصالحة مع من يتهمون بالفساد المالي عوض مصادرة املاكهم. وكشف هذا التحول ان مرسوم المصادرة يتجه الى نهايته. وينتظر بالتالي ان ينحصر مجال المصادرة مستقبلا في عائلة الرئيس الاسبق زين العابدين بن علي واصهاره الذين يصعب تسويق مصالحة معهم سياسيا. بالمقابل، يكون لسائر الأشخاص المصادرة أموالهم الاستفادة من مصالحة قد تسمح لهم بالاحتفاظ بثروات حققوها عن طريق الفساد وصرف النفوذ. ومن المرتقب أن يحصل ذلك تحت شعار "اجتذاب المستثمرين".

شكلت المصادرة اجراء جراحيا يهدف لتطهير المال من الفاسدين، فتحولت المصادرة  بفعل سوء الادارة الى مظهر لفساد تصرف الحكومة في المال العام لينتهي الامر الى حديث يتطور في اتجاه طي صفحة الماضي دون طول محاسبة مع رجال المال تحت عنوان المصالحة كبديل عن العدالة الانتقالية انتهاء وعن المصادرة بداية.

 

[1] http://tunisie-telegraph.com/

 

[2] الفصل الاول من المرسوم عدد 13لسنة 2011 المؤرخ في 14/03/2011. "تصادر لفائدة الدولة التونسية وفق الشروط المنصوص عليها بهذا المرسوم وفي تاريخ إصداره، جميع الأموال المنقولة والعقارية والحقوق المكتسبة بعد 7 نوفمبر 1987 والراجعة للرئيس السابق للجمهورية التونسية زين العابدين بن الحاج حمدة بن الحاج حسن بن علي وزوجته ليلى بنت محمد بن رحومة الطرابلسي وبقية الأشخاص المبينين بالقائمة الملحقة بهذا المرسوم وغيرهم ممن قد يثبت حصولهم على أموال منقولة أو عقارية أو حقوق جراء علاقتهم بأولئك الأشخاص   

[3] حوالي 400 شركة فيما يدير بقية الشركات مصفون بالنسبة للشركات المتوقفة عن العمل ومديرين عينتهم السلطة دون ان تتبين معايير تعيينهم. 

[4] تولى صندوق المصادرة خلال سنتي 2012 و2013 صرف تسبقات لعدد من الشركات المصادرة

[5]                                                                                                                  اعلن عن تأسيس الكرامة هولدنينغ في 26-07-201

[6] تصريح لاذاعة اكسبراس ف م بتاريخ 29-05-2015                
http://www.radioexpressfm.com/ar/lire/

[7] من شعارات الثورة التونسية التي رددت في كامل محطاتها القضاء على عصابات السراق ويقصد بها من استغلوا النفوذ للاثراء على حساب المجموعة الوطنية                                                                                                                                     

[8] للاطلاع على النص الكامل لتصريف الاستاذ يوسف الرزقي  المحامي ووكيل جانب من المدعين في قضايا ابطال قرارات المصادرة  يرجى الاطلاع على النسخة الاصلية  من التحقيق كما نشر بالمفكرة القانونية  
                                                       http://www.legal-agenda.com/article.php?id=1056&folder=articles&lang=ar        

[9] موقع باب بنات تونس                                                                    
  http://www.babnet.net/rttdetail-107050.asp

[10] بيان اعلامي حزب العمال
http://www.babnet.net/rttdetail-106905.asp

[11] تصريح وزير املاك الدولة لصحيفة الصباح التونسية 09-06-2015